التفاوت في التقدّم وتركيبة المجال العالمي
التقديم:
أربع وثائق جغرافية تتعلّق بالتفاوت في التقدّم وتركيبة المجال العالمي، تبرز الوثيقة الأولى وهي جدول
احصائي ثابت تباين المؤشرات الاقتصادية والبشرية لبعض بلدان العالم سنة
2102 ، كما يوضّح الرسم
البياني الدائري تفاوت حصّة بعض بلدان العالم المتقدّم والنامي من اجمالي نفقات البحث والتطوير في
العالم سنة
2100 ، وقد اقتطفت المعطيات الواردة بهتين الوثيقتين من مصادر متنوّعة وهي ملامح العالم
.
الاقتصادية لسنتي 2102 و 2102 وتقرير التنمية البشرية
2102 وتقرير المنظمة العالمية للتجارة 2102
أما الوثيقتين الثالثة والرابعة فتتمثلان في نصين يبرز الأول التقسيم العالمي للعمل الجديد وما أفرزه من
تحوّلات، وهو مقتطف من كتاب
"العلاقات بين الشمال والجنوب، 2101 ، لسيباستيان دي دايو وآخرين،
الصفحة
7، في حين يوضّح النصّ الثاني تعدّد عوائق التنمية بأفريقيا، ورد بآفاق اقتصادية بأفريقيا سنة
2102
،عن منشورات البنك الأفريقي للتنمية، الصفحة 22 . وتطرح مجموع هذه الوثائق ما أفضى التفاوت
في مستويات التقدّم الاقتصادي والاجتماعي من تشكّل مجال عالمي ثنائي التركيبة، تمثّل بلدان الشمال
المتقدّمة مركزه وبلدان الجنوب النامية أطرافه وعوامل هذا التفاوت.
فماهي أصناف البلدان حسب
مستويات تقدّمها ؟ وما هي العوامل المفسّرة لهذا التفاوت في التقدّم ؟
أصناف البلدان حسب مستوى التقدّم: -I
-2 بلدان الشمال: وهي مركز نظام العالم وتضم قوى متفاوتة من حيث القوة والنفوذ وعلى رأسها :
أ الولايات المتحدة الامريكية:
تمثّل واحدة من الثالوث وأحد أبرز الاقطاب المتحكمة في المجال العالمي
وامتلكت مقومات القوة العظمى بفضل دعائمها البشرية والهيكلية والتنظيمية.
وتبرز قوّتها من خلال :
الخصائص الاقتصادية:
بفضل قوتها الاقتصادية وامتلاكها لطاقة انتاجية عالية أصبحت الولايات ·
المتحدة الأمريكية تستأثر بأرفع قيمة للناتج الداخلي الخام للفرد
) 10115 دولار( وتهيمن بمفردها على
%2.0
من الصادرات العالمية للسلع. هذا إلى جانب أسبقيتها التكنولوجية، إذ وفّرت الولايات المتحدة
الأمريكية بمفردها
22 % من نفقات البحث والتطوير في العالم سنة 2102 وحازت تبعا لذلك على أكبر
عدد من جوائز نوبل وامتلكت أرفع النسب من براءات الاختراع.
وقد زاد في دعم نفوذها العالمي المالي
والنقدي
) الدولار( واحتوائها على مجالات تركز النفوذ
) الميغالوبوليس الامريكية( وحواضر عالمية
تمثل مراكز دفع الاقتصاد العالمي.
الخصائص الديمغرافية والاجتماعية: مثّلت البنية السكانية ومستويات التقدّم البشري احدى دعائم قوة ·
الولايات المتحدة الأمريكية، إذ بلغ المجتمع بهذا البلد مرحلة النضج الديمغرافي
)بلغت نسبة النمو
الطبيعي للسكان
1.1 %( ومثّلت هذه البنية السكانية طاقة انتاجية عالية بفضل ارتفاع مستوى التكوين
)ذلك أن نسبة الأمية خلال الفترة الفاصلة بين 2111 و 2101 لم تتجاوز
0%( وطاقة استهلاكية عالية
بفعل ارتفاع نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام.
وهو ما مكّن سكان الولايات المتحدة من تلبية
حاجياتهم الأساسية إذ بلغ مؤشّر التنمية البشرية بها معدّلات قياسية
) 1.227 وهي تحتلّ المرتبة الثالثة
عالميا(.
هذا وقد تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية مشكل التهرم باستقطاب المهاجرين وتطوير
التكنولوجيا.
ب روسيا قوّة عالميّة بصدد التحوّل:
تبرز روسيا كقوة عالمية بصدد التحول تسعى إلى المحافظة على
مقومات النفوذ الجغراسياسي والعسكري الذي ورثته عن الاتحاد السوفياتي.
الخصائص الاقتصادية
: تعدّ روسيا من البلدان في طور الانتقال الاقتصادي، إذ كانت من الأقطار ·
الاشتراكية سابقا ثمّ تبنت النموذج الرأسمالي واستقطبت الاستثمارات الأجنبية المباشرة وأصبحت ضمن
البلدان الصاعدة.
وبفضل التحوّلات الاقتصادية التي عرفتها روسيا ارتفع الناتج الداخلي الخام للفرد بها
إلى مستويات عالية نسبيا
) 02752 دولار( وبلغت تبعا لنوّها الاقتصادي نسبة مساهمتها في التجارة
.)%
العالمية ) 2.2
الخصائص الديمغرافية والاجتماعية: تعيش روسيا مثل بقية العالم المتقدّم مرحلة النضج الديمغرافي، ·
وبفعل الحركية الديمغرافية التي تشهدها دخلت مرحلة ما بعد الانتقال الديمغرافي وسجّلت نموا سلبيا
)-
%1.0
(، في نفس الوقت الذي تشهد فيها مؤشرات التنمية البشرية معدّلات مرتفعة ) 1.722 وتحتلّ
.%
المرتبة 11 عامليا(
ولا تتجاوز نسبة الأمية فيها 1.2
-1 بلدان الجنوب: وهي أطراف النظام العالم، ولئن تشترك في بعض السمات فإنها تتفاوت في مستويات
التنمية الاقتصادية والبشرية وأبرزها:
أ البرازيل: وهي نموذج للبلد الصناعي الجديد وتعدّ قوة اقليمية تتميّز ب:
الخصائص الاقتصادية
: بفضل استراتيجية التصنيع الحاث على التصدير أرسى البرازيل قاعدة ·
صناعية متنوعة وتوف ق في تسلّق عالية الإنتاج ونجح في الاندماج في العولمة فسجل نموا اقتصاديا مكنه
من الرفع من الناتج الداخلي الخام للفرد به والذي بلغ
02222 دولار ويعادل أو يفوق معدّلات عديد دول
العالم المتقدّم.
رغم ما يعانيه هذا البلد من تبعية تكنولوجية وتجارية في ظل احتداد المنافسة العالمية، فإنّ
.)%
مساهمته الصادرات العالمية للسلع تبقى متوسطة ) 0.2
الخصائص الاجتماعية:
بفضل التنمية الاقتصادية التي عرفتها سجّل البرازيل مؤشر تنمية اجتماعية ·
،)% متوسّط
) 1.722 وتحتل المرتبة 21 عالميا(،
رغم أن نسبة الأمية ما تزال مرتفعة فيه نسبيا ) 01
هذا علاوة على حدّة التباينات الاجتماعية والمجالية.
ب الصين: تعدّ الصين نموذجا للقوة الاقتصاديّة الصاعدة، وبفضل التحوّلات الاقتصادية التي عاشتها
تمكّنت من اكتساب خصائص القوة الاقليمية:
الخصائص الاقتصادية
: ساهمت القفزة الصناعية التي عرفتها الصين في اكتسابها لمساهمة هامة جدا ·
في التجارة العالمية
) 01.2 %( متجاوزة القوى العالمية العظمى وأصبحت المنافس الأكبر لها. ودعّمت
الصين مكانتها في السوق العالمية بتركيزها على مجال التكنولوجيات العالية ذات القيمة المضافة
المرتفعة، إذ أنها ساهمت ب
02 % في إجمالي نفقات البحث والتطوير في العالم سنة 2100 . هذا رغم
بقاء معدّل نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام ضعيف نسبيا.
الخصائص الاجتماعية والديمغرافية: رغم نموها الاقتصادي ما يزال مؤشّر التنمية البشرية بالصين ·
متوسطا
) 1.522 ( في الوقت الذي سجّلت فيه نسبة النمو الطبيعي تراجعا إذ بلغت 0% خلال الفترة
الفاصلة بين
2111 و 2101 ، وذلك بفعل السياسة السكانية الصارمة التي اعتمدها.
ج المملكة العربية السعودية:
تعدّ المملكة العربية السعودية نموذجا للبلد النفطي استندت في تجربتها
التنموية على ثرواتها النفطية:
الخصائص الاقتصادية:
بفضل ضخامة العائدات النفطية سجّلت المملكة العربية السعودية أرقاما عالية ·
في نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام
) 22521 دولار(، ورغم أن حصة مساهمتها في الصادرات
العالمية تعدّ عالية نسبيّا
) 2%( مقارنة ببقية بلدان الجنوب ،
فإنها أساءت توظيف هذه العائدات الضخمة
اقتصاديا وبقيت رهينة السوق النفطية وتقلباتها.
الخصائص الديمغرافية والاجتماعية: سجّلت المملكة العربية السعودية مؤشرات بشرية غير متجانسة، ·
فلئن بقيت نسبة النمو الطبيعي
) 0.2 %( ونسبة الأمية ) 02.2 %( مرتفعتين وهي من سمات الدول النامية
الأكثر تخلّفا ، فإن مؤشّر التنمية البشرية بها يرتفع إلى مستويات عالية ) 1.771 وتحتل المرتبة
15
عالميا(
متوفّقة بذلك على عديد البلدان المتقدّمة.
ج النيجر: تعدّ النيجر نموذجا للبلدان الأقل تقدّما تتسم بمؤشرات تنمية ضعيفة:
الخصائص الاقتصادية:
لم توفّق النيجر مثل بقية البلدان الأقل تقدّما في تحقيق تنمية اقتصادية إذ بقي ·
فيها نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام ضعيف جدّا
) 222 دولار( ولم تتجاوز حصتها في الصادرات
العالمية
1.117 %( بسبب بقاء هياكلها الاقتصادية تقليدية رغم محاولات التعصير.
الخصائص الاجتماعية:
حافظت النيجر على المؤشرات الديمغرافية المميّزة للبلدان الأقلّ تقدّما إذ أنها ·
ما تزال في الطور الأول من الانتقال الديمغرافي وتعاني من الانفجار الديمغرافي
) 2.1 %(، كما بقي
مؤشّر التنمية البشرية بها من المعدلات الأضعف في العالم
) 1.212 وتحتل المرتبة 025 عالميا(.
يتسم المجال العالمي بتفاوت واضح في التقدم الاقتصادي والاجتماعي يعود الى عوامل متعدّدة.
عوامل التفاوت في التقدّم -II
2. العامل الدّيمغرافيّ وانعكاساته الاجتماعية والاقتصادية في بلدان الشمال وبلدان الجنوب:
أ العوامل الديمغرافية: تزامن النمو الديمغرافي السريع
)الطفرة( في العالم المتقدم خلال القرن
19 مع
النمو الاقتصادي، أما في مرحلة النضج الديمغرافي فقد تجاوز مشكل التهرّ م باستقطاب المهاجرين
وتطوير التكنولوجيا. في حين أن العالم النامي يمرّ بمرحلة الانتقال الديمغرافي، ولئن مكن النمو الطبيعي
السريع من توفير يد عاملة ساهمت في استقطاب الشركات عبر القطرية، فإنه زاد في الترفيع في
الاستثمارات الاجتماعية
)صحة تعليم سكن ..( على حساب الاستثمارات الاقتصادية.
ب تباين مزايا الرصيد البشري:
مثلت البنية السكانية في بلدان الشمال إحدى دعائم القوة باعتبارها طاقة
استهلاكية عالية بفضل الارتفاع المتواصل للناتج الداخلي الخام للفرد من جهة، وباعتبارها طاقة انتاجية
عالية ذات مستوى تأهيل وتكوين جيّد من جهة ثانية.
وقد تدّ عمت هذه البنية السكانية بالهجرة الوافدة
وخاصة باستقطاب الادمغة من العالم النامي.
في حين مثلت البنية السكانية في عديد بلدان الجنوب إحدى
عوائق التنمية نظرا لمحدودية الطاقة الاستهلاكية بسبب ضعف الدخل الفردي وتفاوت توزيع الثروة
)اقلية
غنية
/اغلبية فقيرة( من ناحية، وبفعل محدودية الطاقة الانتاجية بسبب ضعف مستوى التكوين مقابل هجرة
اليد العاملة المؤهلة والادمغة من ناحية أخرى، وهو ما زاد في تكريس تبعيتها التكنولوجية لبلدان الشمال.
وقد فرضت هذه الوضعية ضرورة البحث عن انجع السبل لتدارك تأخرها وتحقيق التنمية.
1. الهيمنة الاقتصاديّة لبلدان الشمال وتبعية بلدان الجنوب:
أ الهيمنة الاقتصادية:
فرض العالم المتقدم هيمنته الاقتصادية منذ الفترة الاستعمارية مع توسّع الرأسمالية
عقب الثورة الصناعية في القرن
02 . ورغم تحقيق البلدان النامية لاستقلالها السياسي فان انفتاحها على
الاستثمار الاجنبي وسيطرة الشركات عبر القطرية منذ ثمانينات القرن العشرين زاد في تكريس الهيمنة
الاقتصادية لبلدان الشمال.
ب التبعية الاقتصادية:
تعيش البلدان الجنوب تبعية متعدّدة الأوجه مالية وتجارية وغذائية وتكنولوجية
وسياسية، وتعدّ من معيقات التنمية بهذه البلدان التي لم توفّق العديد منها في الاندماج في النظام التجاري
العالمي ومجابهة متطلبات العولمة وتخطي الصعوبات والسلبيات المترتبة عنها مما يجعلها تعيش أزمات
اقتصادية ومالية زادت في تعميق الفوارق بينها وبين بلدان الشمال.
3. التقسيم العالمي الجديد للعمل في ظلّ العولمة:
عملت بلدان الشمال على الاستفادة من التقسيم العالمي للعمل بإعادة توطين صناعتها في بلدان الجنوب
للاستفادة من مرونة ظروف الاستثمار وفرة اليد العاملة وضعف تكلفتها ومن مواردها المنجمية والطاقية.
ولئن مكّن ذلك من إدماج عديد بلدان الجنوب وخاصة منها الأقطار الصناعية الجديدة في العولمة
الاقتصادية، فإن هذه الاستفادة كانت محدودة ومتباينة.
إذ يعتبر التقسيم العالمي للعمل الجديد غير متكافئ،
فقد جعل من دول المتقدمة منتجا ومصدرا أساسيا للمنتجات الصناعية ذات التكنولوجيا العالية والقيمة
المضافة المرتفعة في حين جعل من الدول النامية منتجا ومصدرا أساسيا للمواد الأولية الفلاحية والمنجمية
والطاقية وبعض المنتجات الصناعية والخدمات ذات القيمة المضافة المتوسطة والمنخفضة، مما أدّى إلى
تدهور طرفيّ التبادل لصالح العالم المتقدم وزاد في هشاشة اقتصاديات دول العالم النامي، وحتى الأقطار
النفطية لم تستفد من ارتفاع أسعار النفط خلال عديد فترات ارتفاعه بسبب سوء التصرف في مواردها
وعدم توظيفها في الاستثمارات المنتجة.
4. التفّوق العلمي والتكنولوجي لبلدان الشمال:
مكّنت الثورات التقنية المتعاقبة ببلدان الشمال من الزيادة في الانتاجية بكل القطاعات الاقتصادية ، إذ وفّر
التطوّر العلمي والتكنولوجي والتقني من زيادة الانتاج وفي ابتكار منتجات جديدة ومن تطوير تقنيات
الاتصال والزيادة في نجاعتها.
فسمح لها ذلك بالسيطرة على الأدفاق الاعلام والأدفاق المالية والتجارية
في العالم وضمنت عمليات التزويد والتسويق واكتسبت قدرة أكبر على التحكّم في مجالاتها الوطنية
والهيمنة على المجال العالمي.
كما اكتسبت بلدان الشمال قدرة فائقة على التحكّم في انتاج التكنولوجيا
وتطويرها بفضل ارتفاع نفقات البحث والتطوير، وقد أجاز ذلك لهذه البلدان الدخول في طور تقني جديد
مكّنها من تطوير الصناعات التكنولوجية العالية لتصبح أكبر مصدّر للمنتجات الصناعية والخدمية ذات
القيمة المضافة العالية جسّمت قوّتها وتفوّقها في مجال التكنولوجيا. في المقابل رغم محاولات بعض بلدان
الجنوب الزيادة في نفقات البحث والتطوير
)البرازيل والصين(، فإن أغلبها ما يزال يعيش تبعية
تكنولوجية.
تعدّ هذه الأسباب من عوائق التنمية في أغلب بلدان الجنوب وخاصة ببلدان أفريقيا جنوب الصحراء
التي تعتبر الأقل تقدّما.
خاتمة:
تكمن أهمية هذه الوثائق في إبرازها للتفاوت العميق والواضح للمجال العالمي، وتبيان مستويات
التقدم الاقتصادي والاجتماعي والذي يعود الى عوامل اقتصادية وبشرية وتكنولوجية في ظلّ التقسيم
العالمي للعمل في نظام اقتصادي معولم، فلم تفلح التجارب التنموية لبلدان الجنوب في القضاء على
التفاوت في التقدم المميّز لهذا المجال العالمي الذي رغم ترابطه ما يزال غير متكافئ وتستفيد منه بلدان
الشمال وخاصة الثالوث في حين لم يزد بلدان الجنوب سوى هشاشة وتبعية
Commentaires
Enregistrer un commentaire